التَّــدَيــّنُ الْمَـــغْـشُوشُ... !!
عرفته رجلا تجاوز العقد الخامس من عمره؛ مظهره يوحي بالوقار والتعقل والرزانة..ومع ذلك كان يكثر من الهمز واللمز علاوة على التمادي في القيل والقال.كنت إذا ائتمنته على شيء لم يحفظ الأمانة،وإذا عاهدته على الوفاء أخلف العهد،وكانت مواعيده على حد قول المثل العربي:"مواعيد عرقوب"..إذا سأله سائل عطاء أشاح عنه بوجهه العبوس من غير ادنى اهتمام، وإن هو أطال الوقوف ملحا في الطلب نهره ثائرا:"تفو الله يلعنها سلعة!!..."، وكلما أنحيت عليه باللائمة على فعلته هذه، رد على الفور:"هؤلاء الأنذال زوائد دودية ينبغي استئصالها من جسد المجتمع المريض...!"
كان شديد الولوع بالجنس الآخر إلى حد كان يتحين فيه الفرص مترقبا الرائحات والغاديات، في سن بناته، عله يحظى من هذه أو تلك بابتسامة أو نظرة أو التفاتة كما لو أنه فتى في مقتبل العمر أو مراهق في سن العشرين..وما أن يتأكد من أنه ظافر لا محالة بالمطلوب حتى يبدو محياه أكثر بشاشة واستبشارا ليجود بعد ذلك بكل ما لديه، وإن لزم الامر أن يتجشم في ذلك المشاق والصعاب.وأما علاقته بالأهل والزملاء والناس فكان يشوبها الحذر والحيطة،كما لو أنهم يتربصون للإيقاع به،فكان يتضايق من معاشرتهم أو من مجرد محادثتهم أو الإصغاء إلى مطالبهم وشكاويهم معتبرا إياهم ذئابا بشرية شرسة...
وما أن يحل شهر رمضان الأبرك حتى ينزع عنه لباس المعصية والضلال ويرتدي أردية"التقوى والغفران" ويتحول بقدرة قادر إلى داعية لاتبرح لسانه عبارات من قبيل:"حرام هذا يافلان!..حلال هذا يافلانة!..اتق الله يافلان!..هداك الله يافلانة!"وإن انت رافقته، مشى متواضعا يميط الاذى عن الطريق، غاضا بصره ومستعيدا بالله من المتبرجات تبرج الجاهلية أو يتطلع بنظرة خاطفة ملؤها الإشفاق إلى وجوه القابعين في المقاهي بعد الإفطار داعيا لهم بالهداية والرجوع إلى الصراط المستقيم.وإن أحدا من الأصحاب ألقى عليه بالتحية رد عليه بأحسن منها،وإذا استوقفه كل ذي حاجة أو فاقة توقف بتؤدة ومد كفه قائلا:"باسـم الله!!..."وكلما حاولت مفاتحته في شأن مـن شؤون الحياة والناس، قاطعني مستنكرا:"دع الناس وشانهم وقل خيرا أو اصمت!.."
كان يستشعر الرضى والاطمئنان كلما نودي عليه بـ"الحاج" ربما اعتقادا منه أن التسمية خلال هذا الشهر المعظم يضفي عليه مزيدا من المهابة والإجلال، ومن ثمة كونها أجدى وسيلة لتضليل البلاد والعباد من أجل قضاء مأربه وشؤونه الحياتية الخاصة لا غير..سألته بعد أن عيل صبري قائلا:"لم تفعل في هذا الشهر ما لا تفعله في غيره من الشهور؟!"..لم يزد على ان قال:"إنه شهر العبادة والغفران!.."يقول ذلك متناسيا أن شرط المغفرة أن تكون عبادة هذا الشهر الكريم رادعة له عن الإثم والخطيئة فيما تبقى من الشهور...
إنـه التدين المغشوش ، المرتدي للباس الحرباء!!..وهي في اعتقادي أنسب صفة يمكن ان تنطبق على موصوفها.ولا يخفى على لبيب أن وجه الشبه بين الطرفين- على حد تعبير البلغاء- ليس شيئا أخر سوى التمويه والتخفي.وهي ممارسة تنبني على التضليل ويروم منها صاحبها إلى أحد أمرين، أولهما:الإيقاع بالمستضعفين وكل مغلوب على أمره؛ وثانيهما: درء المخاطر عن النفس مخافة المتسلطين من العظماء وذوي النفوذ.وإذا كانت الحرباء تتباهى بأزيائها القشيبة بين أحضان الغاب،فإن هذا الرجل تتعدد وجوهه بين الناس في النفاق؛يقول مصطفى صادق الرافعي: فـيا عـجبا تمـشي بستـة أوجه مع الدهر، بين الناس واسمك واحد
والظاهر أن الشاعر لا يقصد إلى العدد وإنما إلى التعدد والاختلاف لأن أوجه النفاق في مجتمعنا متباينة ولا حصر لها.
وصفوة القول أن سلوكا مثل هذا لا يصدر عن صاحبه عن جهل بأمور الدين، لأنه يعرف مسبقا انه مسؤول عن جهله، ولا عن فهم خاطئ له مادام قادرا على تصويب أخطاء غيره، ولكنه يلجأ إلى ذلك عن تجاهل، وتلك لعمري هي الخطيئة العظمى والطامة الكبرى...
بقلم : صــــلاح اهـــضــيــر
كان شديد الولوع بالجنس الآخر إلى حد كان يتحين فيه الفرص مترقبا الرائحات والغاديات، في سن بناته، عله يحظى من هذه أو تلك بابتسامة أو نظرة أو التفاتة كما لو أنه فتى في مقتبل العمر أو مراهق في سن العشرين..وما أن يتأكد من أنه ظافر لا محالة بالمطلوب حتى يبدو محياه أكثر بشاشة واستبشارا ليجود بعد ذلك بكل ما لديه، وإن لزم الامر أن يتجشم في ذلك المشاق والصعاب.وأما علاقته بالأهل والزملاء والناس فكان يشوبها الحذر والحيطة،كما لو أنهم يتربصون للإيقاع به،فكان يتضايق من معاشرتهم أو من مجرد محادثتهم أو الإصغاء إلى مطالبهم وشكاويهم معتبرا إياهم ذئابا بشرية شرسة...
وما أن يحل شهر رمضان الأبرك حتى ينزع عنه لباس المعصية والضلال ويرتدي أردية"التقوى والغفران" ويتحول بقدرة قادر إلى داعية لاتبرح لسانه عبارات من قبيل:"حرام هذا يافلان!..حلال هذا يافلانة!..اتق الله يافلان!..هداك الله يافلانة!"وإن انت رافقته، مشى متواضعا يميط الاذى عن الطريق، غاضا بصره ومستعيدا بالله من المتبرجات تبرج الجاهلية أو يتطلع بنظرة خاطفة ملؤها الإشفاق إلى وجوه القابعين في المقاهي بعد الإفطار داعيا لهم بالهداية والرجوع إلى الصراط المستقيم.وإن أحدا من الأصحاب ألقى عليه بالتحية رد عليه بأحسن منها،وإذا استوقفه كل ذي حاجة أو فاقة توقف بتؤدة ومد كفه قائلا:"باسـم الله!!..."وكلما حاولت مفاتحته في شأن مـن شؤون الحياة والناس، قاطعني مستنكرا:"دع الناس وشانهم وقل خيرا أو اصمت!.."
كان يستشعر الرضى والاطمئنان كلما نودي عليه بـ"الحاج" ربما اعتقادا منه أن التسمية خلال هذا الشهر المعظم يضفي عليه مزيدا من المهابة والإجلال، ومن ثمة كونها أجدى وسيلة لتضليل البلاد والعباد من أجل قضاء مأربه وشؤونه الحياتية الخاصة لا غير..سألته بعد أن عيل صبري قائلا:"لم تفعل في هذا الشهر ما لا تفعله في غيره من الشهور؟!"..لم يزد على ان قال:"إنه شهر العبادة والغفران!.."يقول ذلك متناسيا أن شرط المغفرة أن تكون عبادة هذا الشهر الكريم رادعة له عن الإثم والخطيئة فيما تبقى من الشهور...
إنـه التدين المغشوش ، المرتدي للباس الحرباء!!..وهي في اعتقادي أنسب صفة يمكن ان تنطبق على موصوفها.ولا يخفى على لبيب أن وجه الشبه بين الطرفين- على حد تعبير البلغاء- ليس شيئا أخر سوى التمويه والتخفي.وهي ممارسة تنبني على التضليل ويروم منها صاحبها إلى أحد أمرين، أولهما:الإيقاع بالمستضعفين وكل مغلوب على أمره؛ وثانيهما: درء المخاطر عن النفس مخافة المتسلطين من العظماء وذوي النفوذ.وإذا كانت الحرباء تتباهى بأزيائها القشيبة بين أحضان الغاب،فإن هذا الرجل تتعدد وجوهه بين الناس في النفاق؛يقول مصطفى صادق الرافعي: فـيا عـجبا تمـشي بستـة أوجه مع الدهر، بين الناس واسمك واحد
والظاهر أن الشاعر لا يقصد إلى العدد وإنما إلى التعدد والاختلاف لأن أوجه النفاق في مجتمعنا متباينة ولا حصر لها.
وصفوة القول أن سلوكا مثل هذا لا يصدر عن صاحبه عن جهل بأمور الدين، لأنه يعرف مسبقا انه مسؤول عن جهله، ولا عن فهم خاطئ له مادام قادرا على تصويب أخطاء غيره، ولكنه يلجأ إلى ذلك عن تجاهل، وتلك لعمري هي الخطيئة العظمى والطامة الكبرى...
بقلم : صــــلاح اهـــضــيــر
شكرا لك .. الى اللقاء
ليست هناك تعليقات:
ضع تعليقك اسفله إذا كان عندك استفسار..